قد رأى رسول الله r مقعده من الجنة، وخُيّر بين الموت والحياة، فاختار لقاء الله U، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فلما نزل به، ورأسه على فخذي، غشي عليه ساعة، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف.
وكأنه يرى مقعده من الجنة، ويعرض عليه التخيير.
ثم قال: "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى".
فاختار لقاء الله U، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: إذن لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، وهو صحيح. أي في زمان صحته r.
وأخذ الألم يشتد برسول الله r، وقال رسول الله r لعائشة رضي الله عنها كما روى البخاري: "مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ".
ويقصد الشاة المسمومة التي أعدها له اليهود، وأخذ منها r لقمة ثم لفظها، ثم قال رسول الله r: "فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ". والأبهر هو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع مات الإنسان.
والرسول r يرجع مرضه وموته إلى أثر السم على عرق الأبهر، ولا يستبعد أن يُبقِي اللهُ U ألمَ السم وأثره في جسمه ثلاث سنوات وأكثر؛ حتى يعطي رسولَه r مع درجة النبوة درجة الشهادة.
واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته r، وهو يريد أن ينصح أمته حتى آخر أنفاسه، فيروي أحمد وابن ماجه عن أنس t قال: كانت عامة وصية رسول الله حين حضره الموت: "الصَّلاةَ الصَّلاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".
حتى جعل رسول الله r يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. فهاتان وصيتان عظيمتان منه r في وقت حرج للغاية، فهو يوصي r بالصلاة، وكذلك يوصي بالرقيق والعبيد، ويجمع بينهما لكي يؤكد على وجوب الإحسان إلى الرقيق.
وفي رواية أبي داود عن علي بن أبي طالب t، يقول علي: كان آخر كلام رسول الله r: "الصَّلاةَ الصَّلاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".
ثم كانت آخر دقائق في حياة الحبيب r، يروي البخاري أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- كانت تقول: "إن من نِعم الله عليَّ أن رسول الله r تُوُفِّي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْرِي ونحري".
والسَّحْر هو الرئة أو الصدر، والنحر هو الرقبة، وكان r عند الوفاة مُسنِدًا رأسه إلى صدر ورقبة عائشة رضي الله عنها، ثم تكمل عائشة وتقول: "وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته".
ثم تفسر ذلك الكلام وتقول: دخل عبد الرحمن (ابن أبي بكر، وهو أخوها)، وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله r، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أنْ نَعَمْ ( لا يقوى على الكلام )، فتناولته فاشتد عليه (لم يستطع أن يستاك بالسواك الجاف)، وقلت: أليّنه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فليّنته، فأَمَرّه ( وفي رواية: أنه استنَّ بها كأحسن ما كان مستنًّا)، وبين يديه ركوة -إناء من جلد- فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه يقول: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ".
وفي رواية عن الترمذي، والنسائي، وابن ماجه: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ".
سبحان الله! حتى على رسول الله r، حتى على أحب خلق الله إلى الله U، إن للموت سكرات، وعندما فرغ من السواك r ورفع يده أو إصبعه، وشخص ببصره نحو السقف، وتحركت شفتاه بكلمات يتمتم بها في صوت خفيض، أصغت عائشة إلى آخر ما يقول r من كلمات في حياته، فسمعته يقول: "مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى". ثم مالت يده، وقبضت روحه r.