مات رسول الله r، إنا لله وإنا إليه راجعون، حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، كل البشر يموتون، ورسول الله بشر، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمر: 30].
وها قد جاءت اللحظة الأليمة، لقد مات رسول الله r، وأظلمت مدينة رسول الله r، لقد نَوّرها رسول الله r يوم دخلها، فتحولت من يثرب إلى المدينة المنورة، ولقد أظلمت المدينة نفسها يوم مات الحبيب r، بل لقد أظلمت الدنيا بأسرها، وليس هذا مبالغة فالرسول r ليس مجرد رجل عظيم، أو قائد فذّ، أو مفكر عملاق فقدته البشرية، إنما هو في حقيقته الأصيلة آخر رسول من رب العالمين إلى الناس.
لقد قضى الله U أن يخاطب عباده ويأمرهم وينهاهم ويوجههم ويهديهم عن طريق إرسال رسل منه إليهم، وعاشت البشرية بهذه الطريقة فترة طويلة من الزمان، ثم شاء الله U أن يختم رسالاته إلى الناس برسالة الإسلام، وشاء I أن يجعل آخر المبعوثين منه إلى الخلق هو رسول الله r، والآن مات آخر رسول من رب العالمين، وليس هناك رسل أو رسالات بعده، فأي مصيبة! وأي كارثة.
لا شك أن الفتن ستقبل وتقبل وتقبل بعد وفاته r، وعلى الناس أن يتوقعوا ظلامًا في فترات كثيرة مقبلة، والرسول r أخبر عن فتنة من هذا النوع ستأتي على أمته، روى مسلم عن أبي هريرة: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".
بل إن الرسول r ربط اشتداد هذه الفتنة بموته r، فقد روى مسلم عن أبي بُرْدَةَ t أن رسول الله r قال: "النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ".
والمقصود بالوعد هنا هو الفتنة والحروب، كما يقول النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم.
لقد كان موته r فتنة حقيقية للأمة الإسلامية، لكن لا شك أن الفتنة كانت أعظم ما يكون عند أصحابه y، فليس من رأى كمن سمع، وليس من عاش وخالط كمن قرأ كتابًا، أو سمع محاضرة، لا شك أن مصيبة الصحابة بفقد رسول الله r كانت أعظم وأجَلّ من مصيبة أي مسلم في الحبيب r.
لقد اضطرب المسلمون اضطرابًا شديدًا، حتى ذهل بعضهم فلا يستطيع التفكير، وقعد بعضهم لا يستطيع القيام، وسكت بعضهم لا يستطيع الكلام، وأنكر بعضهم لا يستطيع التصديق، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r مات وأبو بكر بالسُّنْح (يعني بالعالية مسكن زوجته، ميل إلى المسجد النبوي)، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله r.