على ارتفاع 2500 متر تعانق مدينة «أسمرة» عاصمة دولة اريتريا السماء مستمدة سحرها من تاريخها العريق والزاخر بالأحداث وبنوع خاص، تلك التي تعود إلى حقبة الاستعمار الإيطالي الذي شكلها لتكون «روما الصغيرة».
المسجد والكنيسة جنبا إلى جنب في أسمرة عشق الايطاليون «أسمرة» الى حد انهم أرادوا ان تكون فيها لعاصمتهم أبنية تشبهها بمبانيها وشوارعها واسماء جاداتها ومعالمها وعاداتها وتقاليدها، فكانت «أسمرة».
على مدى قرون طويلة رسمت الجغرافيا تاريخ اريتريا على غرار جاراتها من دول القرن الافريقي، انطلاقا من الموقع الاستراتيجي لهذه المنطقة والذي ازداد اهمية بعد افتتاح قناة السويس عام 1869.
شعوب وحضارات تعاقبت على اريتريا حضارات وجيوش وشعوب ومنها العرب والأتراك والبرتغاليون والايطاليون والبريطانيون وغيرهم وان كان اكثرها تشبثا بتلك الأرض الايطاليون الذين اعتبروها جزءا أصيلا من بلادهم بين 1890 و1941 وجعلوا لها مكانة خاصة بعدما شدهم مناخها الساحر فميزوها حتى على الجزء الباقي من مستعمراتهم الافريقية لاسيما في الصومال وليبيا المجاورتين.
الديكتاتور بنيتو موسوليني كان مولعا بأسمرة ومقر الحزب الفاشي لايزال قائما على احد شوارعها الرئيسية اليوم كشاهد على حقبة مهمة في تاريخ المدينة.
وفي الثلاثينيات من القرن الماضي نقلت ايطاليا الى اريتريا 100 ألف مستعمر ليعيشوا في «بريجينيا» كما أسموها.
انطباعات وملاحظات كثيرة يسجلها الزائر لدى وصوله الى «أسمرة» أبرزها الجو الجميل والمعتدل الذي تحظى به على مدار السنة وطابعها الغربي الذي يطغى على مطاعمها التي تشتهر بالسباغيتي والبيتزا بأنواعهما ومقاهيها ودور السينما فيها وأغلب مبانيها.
نفحة وطنية وإلى جانب التراث الغربي، تشترك «أسمرة» مع باقي مدن البلاد بسيطرة نفحة وطنية عالية منبثقة من النضال الاريتري من اجل الاستقلال وحتى تقرير المصير الذي تكرس رسميا في 1993.
بعد هزيمة الايطاليين في الحرب العالمية الثانية حل البريطانيون مكانهم في مستعمراتهم الافريقية بالتزامن مع تنامي نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة ومع انسحاب البريطانيين في بداية الخمسينيات قررت الأمم المتحدة بتأثير أميركي ان تتحد اريتريا مع اثيوبيا فيدراليا وأقامت في البلاد قاعدة عسكرية مهمة، اطلالها موجودة الى يومنا هذا، وبعد 10 سنوات قام امبراطور اثيوبيا هيلاسيلاسي بإلغاء الفيدرالية وضم اريتريا الى اراضيه معتبرا اياها المحافظة الـ 14 في اثيوبيا، فواجه الشعب الاريتري وكفاحه المسلح الذي استمر نحو 4 عقود واشتد في عهد منغستو هيلاميريام بعد انقلابه على هيلاسيلاسي الى ان توج بتحرير البلاد في ظل تعاطف كبير مع شعبها خاصة من قبل العالم الاسلامي وأنصار الحركات الثورية حول العالم.
الشهداء والصندل مجسم الصندل شعار الكفاح المسلح «شهداء الوطن» من مختلف الفصائل لهم مكانة كبيرة في نفوس الاريتريين وهم شعب يتجاوز عدده الـ 5.5 ملايين بقليل، لكن أغلبهم رجالا ونساء شاركوا في الثورة ودافعوا عن بلدهم في محطات كثيرة كان آخرها الحرب الحدودية مع اثيوبيا عام 1998.
الشعارات والرموز الوطنية تنتشر في كل الساحات والمباني العامة ومنها مجسم «الصندل» الذي كان المقاتلون ينتعلونه وأضحى رمزا لنضالهم.
أول مسجد في القرن الأفريقي أسلحة وآليات على النصب التذكاري خلال الاحتفال
بذكرى تحرير مدينة مصوع عام 1991 أقدم مسجد في القرن الأفريقي بمدينة مصوع تزامنت زيارتنا الى اريتريا مع الاحتفال بذكرى تحرير مدينة مصوع الساحلية التي تشتهر باحتضانها أقدم مسجد في تاريخ القرن الأفريقي بناه الصحابة الأوائل ممن هاجروا إلى أرض الحبشة لنقل تعاليم الإسلام، وقبلة المسجد تأخذ اتجاه المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
انتقلنا من أسمرة الى مصوع برا في رحلة بين الجبال تستغرق نحو 3 ساعات يستمتع خلالها الزائر بجمال طبيعة البلاد وتنوعها البيئي.
تحديات وفي مصوع كان هناك لقاء مطول مع رئيس البلاد اسياس أفورقي الذي تحدث بصراحة عن التحديات التي تواجه بلاده ومبادئ حكمه وسياسته الخارجية التي تكتسب اهتماما دوليا متزايد، ورفضه لفكرة الديموقراطية النمطية التي بغياب التأهيل الوطني تتحول ـ كما يقول ـ الى فرز عشائري وديني وإثني يجر الويلات على البلاد على غرار جيرانها ممن يعانون حروبا أهلية طاحنة.
وأشار الرئيس افورقي الى انه يركز على التنمية وتحقيق المساواة والأمن والسلم للمواطنين كأولوية تتقدم على «ديموقراطية الشكليات والترف» كما يسميها.
ويوضح الرئيس ان الصورة السيئة التي تنقل عن بلاده هي نتيجة حملة إعلامية مضللة تستهدفها من خصومها وتحديدا اثيوبيا والولايات المتحدة الاميركية التي يحملها الرئيس أفورقي جزءا كبيرا من التدهور الذي ألم بمنطقة القرن الأفريقي.
قصة عملة عملة اريتريا هي «النقفة» وتصرف بـ 15 وحدة مقابل الدولار وهي تستمد اسمها من مدينة «نقفة» التي لعبت دورا محوريا في تاريخ النضال الاريتري.
في حديثهم عن الحرب يعيش الاريتريون نوعا من نشوة الانتصار لكونهم شعبا صغيرا تمكن من انتزاع حريته بالسلاح من اثيوبيا (70 مليون نسمة) والتي كانت تعتد أيام حكم الديكتاتور منغستو هيلاميريام بأنها تمتلك اقوى جيش في القارة السمراء. وقد كانت الضربات التي تلقاها نظام منغستو من الثوار أحد ابرز اسباب انهيار نظامه، وفي اسمرة نفسها بنى منغستو ساحة للعروض العسكرية مع مدرجات ضخمة لاتزال قائمة كشاهد على مدى رفضه لمنح اريتريا استقلالها.
أدى استقلال اريتريا الى حرمان اثيوبيا من اي منفذ على البحر ويستمر التوتر بين البلدين على خلفية نزاعات حدودية الى ان انفجر في 1998 ما استدعى تدخلا امميا لوقف الحرب وعاد الهدوء النسبي بين الجانبين رغم ان اثيوبيا تستمر في سيطرتها على منطقة قضى التحكيم بإعادتها الى اريتريا.
9 قوميات يتكون الشعب الاريتري من 9 قوميات مختلفة وهو كأغلب شعوب القرن الافريقي خليط بين العرقين السامي القادم من آسيا والحامي من افريقيا، وتعتبر لغة كل من القوميات الـ 9 لغة رسمية في البلاد.
وتعتبر العربية الى جانب التيجرينية الأكثر انتشارا وهناك أيضا لغات قوميات التيجري والساهو والبيلين والعز والكوناها والنارا والحدارب.
اللغات تدرس كل لغة في المدارس الابتدائية لأبناء القومية التي تستخدمها ثم يتحول الجميع في المراحل العليا للتركيز على الانجليزية المنتشرة بشكل جيد في البلاد.
وبحسب المسؤولين الذين قابلناهم ورغم ان نسبة الامية لاتزال مرتفعة، الا انها اقل في اوساط الصغار خاصة ان الحكومة ما بعد الثورة وجهت تركيزها على الجانبين التعليمي والصحي محققة تقدما كبيرا في هذين المجالين.
ويشير المسؤولون الاريتريون الى انحسار الاوبئة المعروفة في القارة السمراء عن بلادهم والنسب المنخفضة جدا لأمراض منتشرة في القارة مثل الايدز والملاريا وغيرهما.
الرشايدة تحتل قبيلة الرشايدة مكانة مهمة في تاريخ اريتريا النضالي وتعد من مكونات الشعب المهمة وهي تساهم في اثراء التراث العربي في اطار الامة الاريترية، ويتجلى ذلك في المهرجانات الشعبية والمناسبات الوطنية التي يجتمع الاريتريون لإحيائها.
بوشكين وفد «الأنباء» أمام تمثال الشاعر الروسي پوشكين
ذي الأصول الإريترية في أسمرة